عَامُ 2020 وجَحِيم الفاشيّة الرَّقْميّة

هل يُمكننا إيقاف عالَم الطغيان الرقميّ؟ الحقيقة أنّ الإجابة عن هذا السؤال أمرٌ معقّد وفي غاية الصعوبة، ولاسيّما أنّ أغلبنا أصبح جزءاً لا يتجزّأ في سلسلة من المُجتمعات الافتراضيّة التي نسجت ما يقترب من مجالٍ عامّ متخيّل، نعتقد أنّ تفاعلاتنا وحوارتنا فيه تتميّز بقدرٍ كبير من العقلانيّة والحريّة الكاملة، بل وتعمل بقوّة في اتّجاه تحديد أولويّات الأجندة السياسيّة لمُجتمعاتنا وترتيبها. لكنّ المُلاحظ أنّ الوضع الرّاهن قد أصبح يسير في طريقٍ مُعاكس تماماً لهذا السيناريو المُتفائل.

في عالَمٍ وَضع فيه فريقٌ من الخبراء العاملين لحماية كَوكبنا من التهديدات الوجوديّة، تكنولوجيّات الذكاء الاصطناعي على رأس قائمة لعشرة تهديدات تُواجِه الإنسانيّة، وهي التقنيّة التي أُدرجت بالفعل في أغلب مُنتجات حياتنا الرقميّة اليوميّة، ابتداءً من محرّكات البحث، ومروراً بمَواقع التسوُّق الإلكتروني، وانتهاءً بمَواقع التواصل الاجتماعي، يجب أن يساورنا قلق عميق بشأن قُدرات عالَم الاستبداد الرقمي.

كتبتُ من قبل أنّ كلّ مُواطن على سطح هذا الكوكب تقريباً، أصبح له قرين افتراضي يُلازم شخصيّته الواقعيّة، ويترك بصماتٍ رقميّة مميّزة لأبسط أنشطة وممارسات حياته اليوميّة التي يتفاعل من خلالها مع التطبيقات الذكيّة على شبكة الإنترنت؛ فالكلمات التي نبحث عنها عن طريق محرّكات البحث الشهيرة مثل غوغل، والصور الشخصيّة التي ننشرها مع أصدقائنا على مَوقع انستغرام، والمُنتجات التي نشتريها من مَواقع التسوّق الإلكتروني المُختلفة، والصفحات والتعليقات التي نسجِّل إعجابنا بها على مَوقع الفيسبوك، والأماكن التي نذهب إليها بصحبة تطبيقات الخرائط الملاحيّة في هواتفنا الذكيّة، والتغريدات القصيرة التي نعبِّر بها عن آرائنا ومَشاعرنا على مَوقع تويتر، والوظائف التي نبحث عنها على مَوقع لينكد إن، كلّها أنشطة ومُمارسات عاديّة، تترك بصماتنا الرقميّة التي تسعى أجهزة الاستخبارات السريّة وشركات تحليلات البيانات الضخمة إلى اقتفاء آثارها، تمهيداً لفرْزها وترتيبها ومُعالجتها، واستخدامها في عَوالِم خفيّة مليئة بأنماطٍ متعدّدة من التلاعب العاطفي والسلوكي للجماهير. وسواء اعترفنا بذلك أم لا، فمِن المؤكّد أنّ هذه المؤسّسات أصبحت أكثر خطورة علينا من مُراقبة شخصيّة “الأخ الكبير” التي رسمها الصحافي والروائي البريطاني الشهير جورج أورويل في روايته “1984”، لوصف آليّات عمل الحُكم الشمولي الديكتاتوري والخطوات التى يتبعها لتحقيق السيطرة الكاملة على عقول الجماهير.

اليوم، ومع تزايُد انغماس أغلبنا في بعض مصائد الثورة الصناعيّة الرّابعة، التي تتميّز بتوظيف التقنيّات لطمْس الحدود الفاصلة بين المجالات الماديّة والرقميّة والبيولوجيّة، فإنّ البيانات والمعلومات التي ستُصبح مُتاحة عنّا ستكون أكثر بكثير من تلك التي كانت مطلوبة لتشغيل الدول الشموليّة التقليديّة في الماضي. وعلى الرّغم من الاعتراف بالقوّة الهائلة التي قد تضمنها الثورة التكنولوجيّة الجديدة لتحقيق الصالح الاجتماعي وربّما تحسين حياة الناس في جميع أنحاء العالَم بطُرق جذريّة، إلّا أنّ احتمالات إساءة استخدام هذه القوّة للتحكُّم في مصير الجماهير ستظلّ قائمة، مع وجود حكومات تسعى دائماً إلى طمْس هويّة مُواطنيها وتحويلهم لأرقامٍ هامشيّة، تعمل في صمت كالآلات خوفاً من الأخّ الرقمي الكبير الذي يُراقب كلّ شيء.

ديكتاتوريّة الصين الرقميّة

أكّدت نتائج العديد من الدراسات أنّ تحليلات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وبعض خوارزميّات التعلّم العميق، قد تُمكِّن بعض الدول من تطوير هويّة مواطنيها على النحو الذي تريده في المستقبل القريب. هنا، حكومة دولة الصين، على الرّغم من كونها ليست الوحيدة بلا شكّ، يُمكن الإشارة إليها باعتبارها تُقدِّم أنموذجاً مثاليّاً على الحكومات التي تسعى إلى توظيف التكنولوجيا من أجل فرْض السيطرة. فمنذ وصول الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة في العام 2012، كانت سياساته واضحة بشأن زيادة القيود على الفضاء الإلكتروني الخاضع للرقابة الصارمة بالفعل، عبر تقنيّات الحجب المعروفة باسم “الجدار الناري العظيم”، فصدر قانون الأمن السيبراني الصيني، الذي من شأنه تسهيل مهمّة سيطرة الدولة ووصولها منفردة إلى بيانات المُستخدِمين، وهو القانون الذي وضع قيوداً جديدة على بثّ الأخبار عبر شبكة الإنترنت، تتطلّب الحصول على تصريح مُسبق من الحكومة قبل النشر على تطبيقات المُراسَلة الشخصيّة الفوريّة أو مَواقع التواصل الاجتماعي، ومَن يُخالف ذلك ستكون عقوبته السجن بتهمة “نشر الشائعات”. علاوة على ذلك، جاءت فلسفة هذا القانون لتؤكِّد مفهوم سيادة الدولة على الإنترنت، مع وضعها مزيداً من العقوبات ضدّ محاولات استخدام شبكات الاتّصال الافتراضيّة (VPN) للوصول إلى المَواقع والخدمات المحجوبة.

المُلاحظ، أنّ ترسانة ديكتاتوريّة الصين الرقميّة لم تتوقّف عند هذا الحدّ القانوني، وإنّما ذهبت أيضاً لتسخير الطفرات التكنولوجيّة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتحليلات البيانات الضخمة، لتعظيم عمليّات مُراقبة حياة أكثر من 1.4 مليار مواطن صيني، فدشَّنت العديد من مشروعات المُراقَبة الإلكترونيّة التي تضمَّنت تكنولوجيا التعرّف إلى الوجه بأكثر من 200 مليون كاميرا مُنتشرة في أنحاء البلاد كافّة، وتقنيّة تحديد الأصوات في المُكالمات الهاتفيّة، وبَرامج جمْع بيانات المُواطنين البيومتريّة وتخزينها، بما في ذلك حمضهم النووي وبصمات الأصابع والعَين. 

صحيح أنّ آليّات دولة المُراقَبة الإلكترونيّة الصينيّة تسعى لفرْض سيطرتها على أنحاء البلاد كافّة، لكنّ تشديد إجراءات الضبط الاجتماعي من خلالها، تظلّ أكثر وضوحاً في إقليم “شينجيانج” الذي يضمّ 11 مليون مُسلم أويغوري من أصول تركيّة وآسيويّة، لدرجة أنّ البعض قد أصبح يوصِّف آليّات المُراقبة فيه بمنطقة “حبس الهواء الطلق”. وبحسب بعض التقارير الحقوقيّة الدوليّة، فإنّ أكثر من مليون مواطن إيغوري باتوا رهن الاعتقال في مُعسكراتٍ لإعادة التأهيل الاجتماعي السياسي. 

فضلاً عن ذلك، يعمل المسؤولون الصينيّون الآن على الانتهاء من تضفير كلّ مُخرجات آليّات المُراقبة الإلكترونيّة في نظام ائتمان اجتماعي وطني، يتوقّع أن يحصل كلّ مواطن صيني فيه على ما يُسمّى بنقاط الائتمان، التي ستستخدم بياناته وأنشطته عبر الإنترنت لتحديد درجة ولائه، وما إذا كان يُمكن أن يكون مؤهَّلاً للتقدّم بطلبٍ للحصول على وظائف أو قروض، أو استحقاقٍ للسفر إلى بلدان أخرى، أو حتّى استخدام المواصلات العامّة. ومن المخطّط أن يعمل هذا النظام، الذي قد لا نُبالغ في وصفه بأنّه أكبر تجربة هندسة تكنو- اجتماعيّة في تاريخنا المُعاصِر، بكامل طاقته مع حلول العام 2020.

بل والأكثر خطورة من ذلك، أنّ بعض تقارير وسائل الإعلام ذكرت أيضاً أنّ شركة “بايدو”، المُكافئ الصيني لمحرّك البحث غوغل، طلبت تمويلاً عسكريّاً في مشروعٍ تكنولوجي ضخم مدّته 15 عاماً يُدعى “مشروع الدماغ الصيني”، ويَستهدف البحث في الأساس العصبي للوظيفة الإدراكيّة للمُواطنين. ومن خلال تنفيذ مشروعاتٍ مُماثلة، يبدو أنّ أغلب ابتكارات الثورة الصناعيّة الرّابعة، ستُصبح أدوات قويّة في أيدي طغاة العالَم، لخلْق نَوعٍ جديد من المُجتمعات الخاضعة للسيطرة.

العبوديّة الرقميّة الطوعيّة

الحقيقة أنّ هرولتنا في طريق عصر الفاشيّة الرقميّة، لا ترجع إلى الدول والأجهزة الأمنيّة التي تُحاول إحكام قبضتها عبر ترسانتها الإلكترونيّة للمُراقبة والضبط الاجتماعي فحسب، حيث يُمكننا الحديث أيضاً عن بعض تفاصيل ثقافة العبوديّة الطوعيّة التي انتقلت إلى المُجتمعات الافتراضيّة، وأصبحت تُسهم بشكلٍ مجّاني في تحقيق أهداف الطغاة الحكوميّين.

قبل 15 عاماً من الآن، ومع طرْح تطبيقات الجيل الثاني من الإنترنت أو ما يُعرف بالـ (Web 2.0)، تَسارعت الأقلام والدراسات في تعليق الآمال على ما يُمكن أن تقدّمه هذه الأدوات التكنولوجيّة في مجال دعم الحريّات الفرديّة وتعزير الديمقراطيّة؛ لكنْ يبدو أنّ الكثير من هذه الآمال قد تحطَّم بالفعل مع مرور الوقت، واتّخاذ كثير من مبادئ وأعراف العبوديّة الطوعيّة، كما وصفتها أعمال المفكّر الفرنسي الشهير “إيتيان دو لا بويسي ( 1530-1563)، طابعاً رقميّاً جديداً يشوّه طبيعة المُجتمعات الافتراضيّة ذاتها وخصائصها، ويحوِّلها بشكلٍ تدريجيّ إلى مساحات تكنو- اجتماعيّة غير آمنة من الأساس، لا تختلف كثيراً عن الفضاءات التقليديّة الخاضعة لسيطرة الدولة، حتّى غدت الحريّة تبدو وكأنّها شيء لا يمتّ بصلة إلى فطرة أغلب مُستخدِمي الفضاءات الافتراضيّة، بل واقتربنا بشدّة من الوصول إلى حالة سجن افتراضي بانوبتيكي (Panopticon) كبير، تحضر فيه سلطة الدولة بشكلٍ غير ملموس، وتعتمد في جزءٍ كبير من هندستها للجسد الانضباطي على تغذية ثقافة العبوديّة الرقميّة الطوعيّة بين الخاضعين فيه. 

قد يعتقد القارئ الكريم أنّ هناك مُبالَغة في توصيف حالة مُجتمعات المُراقَبة المُعاصِرة، لكنْ إذا كان مُنغمساً قليلاً في النشاط الافتراضي، فسرعان ما سيتذكّر أنّه تردَّد أكثر من مرّة خلال الفترة الأخيرة، قبل أن يكتب تعليقاً أو حتّى يُبدي إعجاباً بتعليقٍ أو بمجموعة (غروب) للآخرين في حساباته الشخصيّة بمَواقع التواصل الاجتماعي، خوفاً من الفاشيّة غير معلومة المصدر. 

ختاماً، وبالعودة إلى السؤال الذي تمّ طرحه في البداية حول قدرة الجماهير على مُواجَهة عالَم الطغيان الرقمي القادم، لا شك أنّ الإجابة عن هذا التساؤل، في الوقت الرّاهن، قد لا تحمل الكثير من التفاؤل؛ وذلك ببساطة لأنّ التطوّرات التكنو- معلوماتيّة يبدو أنّها ستصبّ دائماً في مصلحة السلطة على حساب حريّة المواطن وخصوصيّته، فضلاً عمّا تتيحه من زيادة قدرة الدولة على استباق مَخاطر وتهديدات المُقاوَمة الجماهيريّة المُحتملة. لقد أصبحنا جميعاً نتعامل مع مسلّمة وجود “الكلّ تحت المُراقَبة”، لكن في الوقت نفسه لا نعرف هويّة مَن يُراقبنا أو حتّى مَوقعه من السلطة. ومع ذلك، تظلّ فُرص الانعتاق من الفاشيّة الرقميّة مطروحة للنقاش، حتّى وإن كانت تحتاج إلى مزيدٍ من البحث والتنقيب لتطوير آليّاتٍ جديدة للمُقاومة، تكون قادرة على كشف تفاصيل السلطة وأسرارها، وتفكيك أو -على الأقلّ- كبْح قدرتها على صناعة الجسد الانضباطي.

أفق – إسلام حجازي/ كاتب من مصر

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


74 − = 64