
بقلم – رقيق ميلود :
في وقتٍ يعيش فيه الشعب الجزائري واحدة من أحلك المراحل السياسية والاجتماعية منذ الاستقلال، يواصل النظام العسكري الحاكم في الجزائر اتباع سياسة عبثية في ترتيب أولويات الدولة. فبينما تتفاقم الأزمات الاقتصادية ويُقمع الحراك الشعبي ويُسجن أصحاب الرأي، ينشغل النظام بدعم ميليشيات “البوليساريو” ماليًا ودبلوماسيًا وعسكريًا، وكأن رفاهية تلك الجماعة أهم من كرامة المواطن الجزائري نفسه.
إن ما يحدث يُجسّد مفارقة عميقة في بنية الحكم بالجزائر: نظام يكرّس جهده لتغذية مشروع انفصالي خارج حدوده، في حين يعجز عن تلبية أبسط مطالب شعبه في الداخل. فبدل أن تُوجّه موارد البلاد إلى التعليم والصحة وفرص العمل، تُهدر في تمويل جماعة لا تمتّ لمستقبل الجزائر بصلة، سوى أنها ورقة يستخدمها النظام لإدامة توترٍ إقليمي يخدم بقاءه في السلطة.
ولعلّ ما يثير الدهشة أكثر هو تلك الازدواجية الصارخة في سلوك الدولة.
فالنظام الذي لا يتسامح مع أبسط مظاهر النقد، ويقمع الأصوات الحرة داخل الوطن باسم “حماية الأمن القومي”، يتحول إلى حاضنةٍ كريمةٍ لميليشيات لا شرعية لها، يمنحها امتيازات مالية ودبلوماسية وحتى رمزية، بينما يُعامل أبناء بلده بتهميش وإهمال، خاصة في قنصليات وسفارات الجزائر بالخارج، التي يُفترض أن تكون ملاذًا للمواطن لا بوابة معاناة جديدة.
ولا يقتصر هذا الدعم على الجانب السياسي أو المالي فقط، بل يمتد إلى التعاون الميداني والعسكري، بل وحتى في أنشطة مشبوهة خارج إفريقيا. فقد سبق أن تورّطت عناصر من البوليساريو في مناطق نزاع كسوريا خلال حقبة نظام بشار الأسد، وفي تحالفات غير معلنة مع أطراف قريبة من النظام الإيراني، ما يُظهر بوضوح أن الجزائر الرسمية باتت تستخدم الميليشيا كأداة لتوسيع نفوذها في مناطق لا تمتّ لمصالح شعبها بأي صلة.
إن هذا التناقض الفاضح بين الشعارات والسياسات يُظهر أن السلطة في الجزائر لا تزال رهينة منطق “التنفيس الخارجي والخنق الداخلي”.
فكلما اشتدّ الاحتقان الشعبي في الداخل، لجأ النظام إلى تصعيد ملفّات خارجية مفتعلة، لتوجيه الأنظار بعيدًا عن الفشل السياسي والاقتصادي.
وهي سياسة قديمة جديدة، قائمة على خلق عدوٍّ خارجي وهمي، وتغذية النزعة القومية الفارغة من أي مضمون تنموي حقيقي.
تُقدّر بعض التقارير الدولية حجم الدعم المالي الذي تُقدمه الجزائر لميليشيات البوليساريو بمئات ملايين الدولارات سنويًا، في وقتٍ تتهاوى فيه القدرة الشرائية للجزائريين، وتتدهور الخدمات العمومية في أغلب القطاعات الحيوية.
ولذلك، يحقّ للمواطن أن يتساءل: أليس من الأولى أن تُصرف هذه الأموال على تحسين حياة الجزائريين بدل تمويل جماعات انفصالية لا تُقدم للوطن سوى مزيد من العزلة والتوتر؟
إن جوهر الأزمة الجزائرية لا يكمن في الخارج بقدر ما يتجذر في طبيعة النظام نفسه.
فالنظام الذي ورث الدولة بعد الاستقلال لم يؤمن يومًا بالديمقراطية التشاركية، بل رسّخ منطق الوصاية على الشعب باسم الشرعية الثورية.
واليوم، بعدما فقد هذا الخطاب بريقه، يحاول النظام استبداله بخطاب “قضية الصحراء” لتبرير بقائه، وكأن مشاكل الجزائريين لا تُحل إلا بتغذية صراع لا يعنيهم.
لقد آن الأوان لأن يعي الجزائريون أن قوتهم الحقيقية لا تُبنى على صراعات مفتعلة، بل على بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية تعيد الثقة بين الشعب والدولة.
أما استمرار النظام في دعم ميليشيات خارجية على حساب كرامة ورفاهية المواطنين، فهو رهان خاسر لا محالة، لأن الشعوب لا تُخدع إلى الأبد، والتاريخ لا يرحم من اختار الوقوف ضد تطلعات شعبه.
إن الجزائر تستحق أن تكون دولة قوية بمواطنيها، لا بمرتزقتها.
وتستحق أن يُصرف نفطها وغازها على تنمية الإنسان لا على شراء الولاءات.
فالدول التي تهين شعوبها لتدليل ميليشياتها، إنما تكتب بأيديها فصول سقوطها القادم.