الإستقرار أولاً و السيادة تالياً : قطاع غزة و المعادلة الجديدة لقرار مجلس الأمن 2803

بقلم : البراق شادي عبد السلام

لا يختلف اثنان على أن الفظائع الإنسانية المؤسفة التي ارتكبتها القوى المتحاربة في قطاع غزة منذ السابع أكتوبر 2023 قد أيقظت سبات الضمير العالمي، حيث أن المشاهد الإنسانية الكارثية جسد الفشل الذريع للمجتمع الدولي في تحصين أسس السلام و حماية المدنيين ، ووسط هذا التداعي الأخلاقي والدمار الهائل، تبين أن آليات الترقيع السياسي و الوعود الإنسانية المعتادة قد تجاوزتها الأحداث بعنفها الإستثنائي ، وكشفت عن إفلاسها في احتواء الأزمة الجيوسياسية المتعددة المداخل و المتدخلين .

إن التحدي الجوهري يكمن اليوم في أن الإخفاق المتواصل والمزمن في بناء الهياكل الأمنية الداخلية القادرة على نزع السلاح وإدارة الحدود في القطاع ، إلى جانب التعثر البنيوي في تأسيس سلطة مدنية بإدارة مالية شفافة وفاعلة، قد حول قطاع غزة إلى بؤرة دائمة لعدم الاستقرار الإقليمي. وهذا الواقع المعقد والمكرر يفرض حتمية أن المعالجة السياسية لا يمكن أن تتم إلا من خلال تغيير جذري وبنيوي في آليات الإدارة والأمن. وعليه، يمثل قرار مجلس الأمن رقم 2803 (2025)، بتأييده الصريح لـ “الخطة الشاملة لإنهاء الصراع في قطاع غزة، وهي المعروفة بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المكونة من 20 نقطة لإنهاء النزاع في غزة والصادرة يوم 29 سبتمبر/أيلول 2025 و التي تحدد خارطة طريق مرحلية لتمكين المؤسسات المدنية والأمنية الفلسطينية تحت إشراف دولي و تربط الأفق السياسي بتحقيق شروط الأمن الدائم وتغيير آليات الحكم الإقليمي، بعيداً عن الحلول التقليدية ، انزياحاً جذرياً نحو تبني إطار عمل عملياتي وتنفيذي يهدف إلى كسر هذه الحلقة المفرغة بشكل مستدام.

وفي هذا الإطار، يرى بعض المحللين أن تأسيس مجلس السلام كإدارة انتقالية دولية، إلى جانب التفويض بإنشاء قوة استقرار، يمثل “وصاية” تقيّد مبدأ السيادة. إلا أن المنظور السياسي الواقعي يدفع إلى التعامل مع هذا الهيكل على أنه إشراف مرحلي وحيوي يستهدف بناء القدرات المؤسسية الكفؤة التي تستطيع تحمل أعباء الدولة المستدامة. وبالتالي، فإن القرار 2803 لا يشكل هدفاً في حد ذاته، بل هو أداة ضرورية استراتيجيا لضمان أمن عملية الإعمار ونجاح برنامج الإصلاح الفلسطيني، الأمر الذي يوفر مرحلة انتقالية مؤمّنة تمكّن في نهاية المطاف من الوصول إلى قيام دولة فلسطينية ذات سيادة فعالة ومسؤولة.

فجوهر القرار 2803 يكمن في إرسائه لمفهوم الواقعية السياسية الجديدة التي تتطلب أفعالاً تنفيذية قبل الشعارات السياسية. فبينما وضع القرار 242 (1967)، بمبدئه “الأرض مقابل السلام”، الإطار الفلسفي التأسيسي للتسوية الإقليمية و لكل مسارات السلام اللاحقة، ظل هذا الإطار معلقاً دون آليات عملية تضمن الأمن والحكامة في منطقة النزاع المباشر. وفي المقابل، قد أيتطيع المغامرة بالقول أنه يمكن اعتبار القرار 2803 الامتداد العملياتي الحاسم للقرار 242 في سياق غزة، حيث لا يقل أهمية عن سلفه التأسيسي، لأنه يترجم الأفق السياسي البعيد المدى إلى إجراءات أمنية وإدارية ملموسة ومؤطرة زمنياً. فإنشاء قوة الاستقرار الدولية ومجلس السلام يمثلان اعترافاً دولياً بأن إرساء السلام المستدام يتطلب أولاً هندسة الاستقرار الفعلي عبر نزع السلاح وبناء مؤسسات حكم كفؤة، وهي شروط ضرورية لم تكن متوفرة عند صدور القرار 242، لكنها أصبحت اليوم شرطا مسبقا لا يمكن تفاديه لنجاح أي حل دائم.

يستند الموقف الأمريكي إلى قناعة راسخة مفادها أن أي محاولة سابقة لترميم الوضع السياسي دون معالجة جذرية للفشل الداخلي في الحوكمة والأمن، قد باءت بالفشل الذريع. ومن هنا، تبرز ضرورة الإشراف المؤقت الذي يمثله مجلس السلام ، ويتم تبرير هذا الإشراف عبر ثلاث مداخل استراتيجية متكاملة:

▪️أولاً، يُعدّ مجلس السلام ضمانة ضد الانهيار المالي والأمني، إذ يُنظر للمشروع في مرحلته الأولى على أنه أمني وإنساني وليس سياسيا. إنّ مهمة المجلس هي ضمان الشفافية الكاملة لعمليات إعادة الإعمار، التي تتطلب مليارات الدولارات، وليس عبثا ربط القرار هذه الإدارة بالشفافية؛ فالهدف هو منع استغلال الموارد من قبل أي جماعات مسلحة لإعادة بناء قدراتها العسكرية.

▪️ثانياً، يتم التعامل مع ربط الأفق السياسي بـ “برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية المُرضي” كـ ضمانة لجودة واستدامة الدولة. فبالرغم من أن البعض قد يعتبر هذا تأجيلاً مقصوداً، إلا أن واشنطن تدافع عن هذا الشرط كضمانة لعدم القفز إلى إعلان دولة مهددة بالفساد والانقسام الفصائلي. لذلك، فإن الإصلاح يهدف إلى أن تكون الدولة المستقبلية مسؤولة وقادرة على حكم نفسها بأمان وفعالية، وهو ما يصب في مصلحة الفلسطينيين أنفسهم.

▪️ثالثاً، تُمثّل لجنة التكنوقراط خطوة مباشرة نحو نزع التسييس و النزعة الفصائلية عن الحكم في القطاع. إذ أن الآلية التي يقترحها القرار بتشكيل لجنة فلسطينية تكنوقراطية تحت إشراف مجلس السلام، هي في الحقيقة خطوة عملية نحو تجريد الإدارة من السلاح ومن التبعية للفصائل المتناحرة. إن الفصائلية، التي تعني سيطرة الولاءات الحزبية والمنقسمة على مفاصل الخدمة المدنية، قد أدت تاريخياً إلى تشتيت الموارد وتضارب المصالح الحكومية. لذلك، يهدف هذا المسار إلى بناء خدمة مدنية محايدة ومهنية عالية، تركز على احتياجات سكان القطاع بدلا من أجندات الفصائل، وهي رؤية تحظى بدعم القوى الإقليمية، كما يتضح من إشارة القرار إلى دور الجامعة العربية.

يتميّز القرار 2803 بولاية أمنية واضحة وجريئة تعكس الواقعية الأمريكية، والرغبة الأممية والإرادة الإقليمية لتحقيق الاستقرار طويل الأمد في القطاع، بما يمهد لسلام دائم في الشرق الأوسط. يتم تحقيق هذا الهدف عبر مسارين متداخلين:

▪️أولاً: نزع السلاح الشامل وتفكيك البنية التحتية العسكرية :
يكمن جوهر المشكلة التي تؤدي لتكرار الصراع في البنية التحتية العسكرية غير الحكومية. لذلك، يعتبر تفويض قوة الاستقرار الدولية بـ نزع السلاح الدائم وتدمير البنى التحتية الهجومية إجراءً حاسماً ولا يمكن تجاوزه. هذه القوة ليست مجرد مراقب حدود، بل هي قوة لفرض السلام ذات ولاية قوية، مهمتها الأساسية إزالة جذر المشكلة لضمان عدم تكرار النزاع.

▪️ثانياً: المحيط الأمني الإسرائيلي المؤقت والمرحلي :
حيث يُنظر إلى بند بقاء “المحيط الأمني” الإسرائيلي كـ ضرورة عملياتية مؤقتة ومرحلية لملء الفراغ الأمني الحرج ،يهدف هذا الإجراء إلى سد أي ثغرة قد تنشأ خلال انسحاب الجيش الإسرائيلي وقبل أن تكتمل جاهزية قوة الاستقرار الدولية والشرطة الفلسطينية المتوافق على تشكيلها. بهذا السياق، يضمن هذا البند أن يكون الانسحاب كاملا ومرتبطا بمعايير واضحة كنجاح نزع السلاح بدلاً من أن يكون انسحابا فوضويا يتبعه فراغ أمني.

و هنا من الضروري التمييز بوضوح بين ولاية قوة الاستقرار الدولية المقترحة و تلك التي مُنحت للقوات الإقليمية في تجارب سابقة ، وعلى رأسها القوة المتعددة الجنسيات في بيروت في الثمانينات بعد الإجتياح الإسرائيلي لبيروت يونيو 1982. ففي حين كانت قوة غير أممية بـ ولاية ضعيفة ويدين مقيدتين، انتهت مهمتها بكوارث إنسانية كمذابح صبرا و شاتيلا لعدم قدرتها على حماية المدنيين العزل و على تجريد الفصائل المتحاربة من سلاحها و ضعفها أمام إصرار الجيش الإسرائيلي على إستكمال مهامه القتالية شمال نهر الليطاني ؛ على النقيض الجذري، يمثل تأسيس قوة الإستقرار الدولية اعترافاً بأن استدامة الاستقرار في غزة تتطلب نهجاً مغايراً تماماً؛ حيث تم تزويدها بتفويض جذري يمنحها سلطة فرض السلام ونزع السلاح العملياتي. هذا التفويض يحوّلها إلى قوة تنفيذية تعمل بمثابة الفصل السابع الضمني، وهو ما يضعها في مصاف مختلف كلياً عن قوات حفظ السلام التقليدية. هذا التباين الواضح يهدف إلى تجنب المصير الذي واجهته القوة المتعددة الجنسيات، والتأكيد على أن القوة الجديدة هي أداة حاسمة ومسلحة لضمان الأمن المستدام، وليست مجرد ترتيب دبلوماسي عابر.

غلى ضوء ما سبق نجاح قرار مجلس الأمن 2803، الذي يفرض إطارا إداريا وأمنيا معقداً على غزة، مرهون بالكامل بالدور الاستراتيجي الذي يمكن أن تلعبه القوى العربية الداعمة لسلام مستدام مع إسرائيل و بشكل الخاص الدول المؤسسة لمسار السلام الإبراهيمي . ففي المقام الأول، يمكن لهذه القوى أن تعمل كجسر حيوي لبناء الثقة بين الإدارة الانتقالية (مجلس السلام واللجنة التكنوقراطية) وسكان القطاع، وذلك عبر تقديم غطاء سياسي وشرعي يمنح الإدارة الجديدة قبولاً لدى سكان القطاع كانت ستفتقده لو كانت جهداً دولياً خالصاً. كما أن هذه القوى تضطلع بدور محوري في دعم الولاية الأمنية لـ قوة الاستقرار الدولية ؛ إذ تستطيع تلك الدول تأمين الحدود لمنع أي محاولات لإعادة تسليح الجماعات غير الحكومية، فضلاً عن العمل كقناة اتصال موثوقة مع إسرائيل لتسهيل انسحاب الجيش الإسرائيلي وفقاً لمعايير “المحيط الأمني” المتفق عليها، وهو ما يقلل من مخاطر الاحتكاك ويضمن استقرار عملية نزع السلاح في أفق بناء شرطة فلسطينية تضمن الأمن في القطاع .

على صعيد آخر، تتبوأ هذه القوى العربية موقعا حاسما في ربط الإعمار بالأفق السياسي المستدام ، فمن الناحية الاقتصادية، يمكنها أن تضمن النجاح الفعلي لبرنامج إصلاح السلطة الفلسطينية عبر توفير التمويل المباشر والشفاف للإدارة التكنوقراطية، مما يسرّع تلبية المعايير المطلوبة لاستعادة السيطرة الأمنية والإدارية. أما سياسياً، فيصبح دور هذه القوى العربية حاسما في قيادة المفاوضات الإقليمية التي تقودها الولايات المتحدة بمجرد تحقيق الاستقرار، وذلك لضمان تحويل الإنجازات الأمنية والإدارية إلى جدول زمني ملموس لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. بشكل يضمن ألا تظل التسوية مجرد ترتيب أمني مؤقت، بل خطوة حقيقية وموثوقة نحو سلام إقليمي شامل يعيد بناء مناخ الثقة المفقود بين كافة الأطراف.

إن المقاربة التي يطرحها القرار 2803 لا تمثل حلاً اعتباطياً، بل هي نظرية للتدخل الوظيفي تُعنى بتأمين ثلاثي الاستقرار (الأمن، الإدارة، التمويل) كشرط لازم لولادة الكيان السيادي المستدام للشعب الفلسطيني . إن الدور الأمريكي، في هذا السياق، يتجاوز كونه قيادة ائتلافية ليصبح الضامن السيادي الذي تقع على عاتقه مهمة بناء “الأفق السياسي للتعايش السلمي”. هذا الدور ليس مجرد وساطة، بل هو وظيفة تأسيسية تهدف إلى تحييد الخلافات البينية وإلزام الأطراف بالمسار السياسي فور اكتمال المراحل اللوجستية، مما يحول دون فشل الدولة في مرحلتها الجنينية فالدمج بين “قوة استقرار” ذات تفويض قوي، و”مجلس حكم انتقالي”،و ربطه بمسار ” كيان سيادي ” في سياق غزة، يجعل هذا القرار نموذجا جديدا ومختلفا يسعى لفرض تسوية أمنية وسياسية ذات بعد سيادي بتوافق إقليمي و دولي واضح.
على المستوى الإجرائي، يُقدِّم القرار 2803 إطارا للشفافية المطلوبة من طرف المانحين عبر إنشاء صندوق ائتماني مخصص. هذه الآلية هدفها الأساس هو معالجة الإخفاقات التاريخية في إدارة المساعدات، بتوفير قناة تمويلية غير بيروقراطية تضمن السرعة والفعالية في إعادة الإعمار، وهو ما يُعتبر شرطا جوهريا لمعالجة الاحتياج الإنساني المزمن. بالتوازي مع ذلك، فإن تأكيد القرار على الشراكة الوثيقة مع القوى الأقليمية الفاعلة هو إقرار بضرورة التكامل الإقليمي كعنصر شرعي لنجاح أي إشراف مؤقت، حيث يكتسب “مجلس السلام” شرعيته من كونه مظلة دولية وإقليمية وليست تفويضاً أحادي الجانب.

و على هذا الأساس يجب النظر إلى الوصاية المؤقتة المتمثلة في “مجلس السلام” ليس كهدف بحد ذاته يمس بالسيادة، بل كـ “أطروحة للسيادة المنظمة”. هي مرحلة ضرورية لتنظيم ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة بحدودها المتوافق عليها دوليا و التي تشمل الضفة الغربية و قطاع غزة و بعاصمتها القدس الشرقية، وفصلها منهجياً عن سيطرة الجماعات الفصائلية المسلحة وعن مخاطر الإدارة الفاسدة. حيث هذا الإطار فرصة أخيرة للمجتمع الدولي والأطراف الفلسطينية لتحويل الإشراف الانتقالي، الذي يدعمه الضمان الأمريكي، إلى سيادة دائمة ومستدامة، بعيدا عن الفوضى الشاملة التي تُهدد بنسف أي مشروع بناء مستقبلي لفلسطين المستقلة .