أفق – محمود برّي*
لعلّه عصر أشباه الموصلات. التعبير أصبح من الأكثر ترداداً في الأوساط العلميّة وأندية الصناعات الدقيقة المتقدّمة. وهو يشير إلى رقاقة صغيرة يجري تركيبها في الآلة (كومبيوتر أو صاروخ أو طائرة حربيّة أو هاتف محمول…) في سبيل تشغيل الجهاز. من خصائصها أنّها لا توصِل التيّار الكهربائيّ بقدرته ذاتها، بل بالقدرة التي يتطلّبها الصَّانِع. فالرقاقة شبه الموصلة يُمكن التحكُّم بموصليّتها، أي بمقدار ما توصله من التيّار.
وللتوضيح أكثر، فالمعروف أنّه في ميدان الكهرباء، هناك موادّ موصِلة للتيّار، كالمعادن على أنواعها، وجسم الإنسان. وهناك موادّ غير موصِلة تماماً أو ذات موصليّة يُمكن التحكُّم بطاقة التيّار الكهربائي الذي يُمرَّر فيها، وتكون بالتالي “شبه موصلة”، مثل السيليكون، والسيراميك، والفحم، والبلّورات الاصطناعيّة، والعنبر. وهناك ثالثاً موادّ عازلة تماماً لا توصل الكهرباء مثل الخشب. ومعروف أنّ كثافة التيّار الكهربائي ترتفع بزيادةِ موصليّة المادّة.
في التوصيف فالرقائق الإلكترونيّة، أي أشباه الموصلات، هي دوائر كهربائيّة دقيقة (Microcircuit) تُغلَّف بمادّة من البلاستيك أو الخزف، وتحتوي على عددٍ من الترانزستورات ومكثّفات التيّار الكهربائي أو المقاومات أو المحرّضات له (بحسب الطلب)، تقوم بوظائف منطقيّة رقميّة، يتمّ من خلالها تشغيل الأجهزة الإلكترونيّة والتحكُّم بها، فضلاً عن أنّها أساس وعلّة ما بات يُسمّى بالذكاء الاصطناعي في أجياله الأكثر حداثةً ودقّة. تُعتبر تايوان المصدر العالَمي الأهمّ والأبرز لإنتاجها. ومن هنا مشكلة هذه الجزيرة والتنافُس المُلتهب عليها بين واشنطن وبكين، والحديث المُتصاعد عن التأزُّم بشأنها بين الغرب والشرق.
الرقائق والصناعات المتقدّمة
تحتلّ هذه التقنيّة موقع الصدارة في الصناعات الحديثة ولا غنىً عنها لتصنيع جميع المُنتجات الإلكترونيّة. فالرقاقة Wafar هي شريحة صغيرة جدّاً من مادّة نصف موصلة (مثل بلّورة أحاديّة من السيليكون النقي المُستخرَج من الرمال) تُستعمَل لتصنيع الدوائر أو “الدّارات” المُتكاملة والأجهزة الميكرويّة التي لا غنىً عنها لتصنيع جميع المنتجات الإلكترونيّة، وهي أغلى مُنتجات السيليكون وأكثرها تعقيداً.
جرى تطوير هذه الصناعة في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، بفضل جهود كلٍّ من “جاك كيلبي” و”روبرت نويس” (يحمل “كيلبي” براءات أكثر من 60 اختراعاً. أمّا “نويس” فيملك 16 براءة اختراع باسمه).
التحكُّم في تصنيع أشباه الموصلات هو بأهميّة التحكُّم بإمدادات النفط في القرن الـعشرين. ويُمكن للدولة التي تُسيطِر على هذا التصنيع أن تُسيطِر أيضاً على (وحتّى أن تخنق) مختلف الصناعات الحديثة، وبالتالي القوى العسكريّة والاقتصاديّة والجيوسياسيّة للدول، باعتبار أنّ مَن يتحكَّم بإنتاجها سوف يحدِّد مَسار القرن الحادي والعشرين.
لذا من البديهي أن يشتدّ التنافُس عليها، حتّى أنّ الحرب بين الدول الصَّانعة والمورّدة لها، لا بدّ لها إن قامت، أن تقوم، على خلفيّة هذه التقنيّة والتحكُّم بها.
مجالات استخدام الرقائق الإلكترونيّة
تمثِّل الرقائق الإلكترونيّة مفتاح التحكُّم بجميع الأجهزة الإلكترونيّة والتقنيّات المتقدّمة، من السيّارة والطائرة والقمر الصناعي، إلى الهاتف وآلة الحلاقة وكلّ الأجهزة المتّصلة بالإنترنت، بما فيها الأجهزة الذكيّة القابلة للارتداء، والإلكترونيّات الاستهلاكيّة، وكلّ أنظمة الأسلحة التي بُنيت في القرن الـ21 ، مثل نظام الصواريخ عالية الحركة “هيمارس” (HIMARS) والطائرات المُسيَّرة والذخائر والصواريخ المضادّة للدبّابات والألغام البحريّة، كذلك تُستخدم في ميادين الطبّ لتشخيصٍ أسرع وأضمن للسرطان والأمراض الأخرى. وتشكِّل الرقاقة المكوِّن الأساس لجهاز الكومبيوتر، المعروف باسم المُعالِج الدقيق والذاكرة الإلكترونيّة.
الرقائق والحرب
السؤال الأبرز المطروح يدور حول أهميّة الرقائق من جهة، ومبرِّر المخاوف المُتصاعِدة من اندلاع حرب باردة جديدة (تحمل بذور تحوّلها إلى حرب ساخنة) بسببها، بين الغرب والشرق، وتحديداً بين الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين بشأن تايوان.
لكن…
لماذا قد تُحارِب واشنطن من أجل تايوان كأنّها ولاية أميركيّة؟ وما الذي يدفع الولايات المتّحدة إلى خَوْضِ حربٍ من أجل حماية جزيرة صغيرة تقوم على بُعدِ آلافِ الأميال من حدودها؟ …تتساءل مجلّة “ذي أتلانتيك” الأميركيّة.
كلّ شيء يبتدئ من الرقاقات الإلكترونيّة
كانت سيطرة تايوان على صناعة هذه الرقاقات بمنزلة هِبة ونِعمة للاقتصاد التايواني. بيد أنّها صارت تشكّل في ما بعد تحدّياً حقيقيّاً لسلامة الجزيرة وأمنها وشبه استقلالها. فالولايات المتّحدة الأميركيّة ومعها الغرب الأوروبي، لا يستغنيان عن هذا المصدر الميسور والموثوق للرقائق الإلكترونيّة التي باتت عماد التكنولوجيا الحديثة. لكنّ تايوان التي تُنتج معظم الرقاقات في العالَم، ليست أكثر من بلد صغير… ولا يَبعد أكثر من مائة ميل عن البرّ الصيني الرئيس، بحيث يَنظر إليها العملاق الأصفر نظرةَ أبوّة ولو بالإكراه، ويعتبرها منطقة انفصاليّة تقع على عاتقه مهمّة إرجاعها إلى بيت الطاعة. وسبق للرئيس الصيني “شي جين بينغ” أن أَعلن أنّ “توحيد الصين مع تايوان هو حتميّة تاريخيّة”.
من هنا فالصراع الحالي على تايوان (بين واشنطن وبكين ومعها روسيا) هو أكبر من مجرّد رغبة صينيّة في ضمّ تايوان إلى البرّ الرئيس، أو رغبة غربيّة بالسلام من خلال منْع الصين من غزو تايوان. فجذور هذا الصراع المُتفاقِم تتجلّى في مجال صناعة الرقائق المتقدّمة الذي يشكِّل الأساس الحقيقي لأيّ مُواجَهة مُحتمَلة، ولاسيّما أنّ الانقطاع لمدّة عامٍ واحد في توريد الرقائق التايوانيّة وحدها، سيكلِّف شركات التكنولوجيا العالَميّة نحو 600 مليار دولار، وفقاً لتحليل “مجموعة بوسطن للاستشارات” (Boston Consulting Group).
وقد أفلَ ذلك الزمن حين كانت أميركا في مقدّمة صانعي أسرع الرقائق على المستوى العالَمي. فهي تراجَعت خلال العقود الأخيرة بفعل المُنافَسة الصاعدة من قِبَلِ تايوان والصين وروسيا وكوريا الجنوبيّة وأوروبا، وتآكلت حصّتها في تصنيع أشباه الموصلات وإنتاجها من 37% من الإنتاج العالَمي في العام 1990، إلى 12% فقط في العام 2020، بحسب بيانات نَشَرَها موقع “أكسيوس” الأميركي.
هذا ما أَسهم ليس في نقْص الرقائق عالَميّاً فقط، بل في حربٍ باردة جديدة مع القوى العالَميّة الأخرى التي تعمل جاهدةً لسدّ الفجوة. وكان من الطبيعي أن تتضاعف أهميّة تايوان (والخطر المحدق بها) على هذا المستوى، وهي توفِّر 55% من الرقائق الإلكترونيّة عالَميّاً، من ضمنها 84% من الرقائق فائقة التقدُّم. وتُعتبر تايوان، بحسب “نيويورك تايمز“، أهمّ صانع للرقائق ومزوِّد بها، وقد احتلَّت الصدارة في السباق لصنْع الشرائح أو أشباه الموصلات الأقلّ سماكةً والأسرع والأقوى، والتي تعمل على تشغيل “إنترنت الأشياء” في أجيالها الحديثة التي يجري تنشيطها عبر شبكات الجيل الخامس. ويتعيَّن على أيّ دولة تتطلَّع إلى الهَيْمَنة على المستقبل الرقمي، الحصول على هذه الرقائق فائقة السرعة وفائقة النحافة.
وفي سياق المُنافَسة الأميركيّة –الصينيّة على الرقائق وعلى تايوان، لم يعُد من اليسير تحديد القوّة العظمى المسيطرة. فالصين ما زالت تعتمد بشكلٍ أكبر على الواردات والتكنولوجيا الأجنبيّة، التايوانيّة أوّلاً، بينما الولايات المتّحدة تستثمر بشكلٍ أقلّ في الإنتاج المحلّي، في حين أنّ مصنع أريزونا (الوحيد في البلاد) ليس كبيراً بما يكفي لسدّ الحاجة الأميركيّة.
لماذا لا تصنع أميركا أو الصين أشباه الموصلات أو الرقائق بنفسها؟
تبلغ تكلفة بناء مصنع رقائق كبير ما يزيد عن تكلفة بناء حاملة طائرات من الجيل المستقبلي، أو أكثر من بناء محطّة طاقة نوويّة حديثة. أضف كلفة اليد العاملة المحليّة الأعلى بكثير منها في مناطق شرق آسيا. وهذا يشكِّل عبئاً ضخماً على الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين الغارقتَيْن أكثر فأكثر في مطبّات الهجوم الروسي على أوكرانيا.
لهذا تُفضِّل الولايات المتّحدة والصين كلاهما الاعتماد على شركات طرف ثالث تملك بالفعل مصانع جاهزة وقادرة على تلبية احتياجات كلٍّ منهما من الرقائق المتقدّمة. مع ملاحظة أنّ هَيْمَنة تايوان في تصنيع أشباه الموصلات، تلعب دَوراً حيويّاً في ردْعِ أيّ غزو صيني مُحتمَل للجزيرة.
وماذا إذا غَزَتِ الصين تايوان؟
لو غامَرت الصين باقتحام “درع السيليكون التايواني” وغَزَتِ الجزيرة لإعادة ضمِّها إلى البرّ الرئيسي، فهناك احتمالان من المُمكن توقُّعهما: الأوّل وقوع مصانع الرقائق التايوانيّة تحت سيطرة الصين، ما يعني تحكُّم بكين بتصنيع هذه الصناعة الحيويّة التي لا غنىً للغرب عنها وتوريدها. وهذا خطّ أحمر بالنسبة إلى أميركا. والثاني أن تُدمَّر هذه المصانع في خضمّ الصراع النّاشب، ما يعني أزمةً عالميّة هائلة لم يشهد العالَم مثيلاً لها بعد. وهذا بالنسبة إلى الصين كمَن يُطلق الرصاصة في رأسه. لكنّ المرجح في حال إقدام الصين على غزو تايوان، أن تُحيَّد مصانع الرقائق، لعدم الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ صعود تقنيّة الجيل الخامس يؤدّي إلى زيادة الطلب عليها.
من هنا تقاطُع إنتاج وتوريد أشباه الموصلات مع الجغرافيا السياسيّة، ومن هنا أيضاً نشوء السبب الحقيقي للصراع الدائر بين واشنطن ومعها الغرب، وبكين وحلفائها في الشرق.
*كاتب من لبنان
قم بكتابة اول تعليق