
أفق – د. حمادي المسعودي*
إنّ هذه الإشكاليّة المطروحة في عنوان هذه المقالة متينة الصِّلة بما نعيشه على المستوى العربيّ اليوم. وهذا يقتضي طرح استفهامٍ رئيس متّصل، هو الآخر، بل هو شديد الاتّصال بالإشكال السابق وبالواقع، وبالمعيش اليومي في المجتمعات العربيّة، فماذا نرى حين ننظر في وضعيّة عالَمنا العربيّ والإسلاميّ اليوم؟ ما المشاهد والصّور التي تتكشّف أمام أبصارنا وبصائرنا؟ إنّه الهول والفظاعة والبشاعة والقَرَف. فنحن ما زلنا نشاهد الدّماء تُراق، وأرواح الأبرياء تُزهَق، والرؤوس تُحَزّ وتُقطَّع، وحرب داحس والغبراء وحرب البسوس وأيّام العرب في الجاهليّة والإسلام لا تنطفئ حتّى تشتعل من جديد بشدّة أكثر تدميراً وأسرع فتكاً.
سِر أينما شئت، فلن ترى إلّا العنف بمختلف أنواعه، بما في ذلك الحرب المدمّرة والإرهاب المُرعب والتطاحن الطّائفي والتناحُر الحزبي والظّلم السّائد وصراع الإخوة الأعداء وهَيْمَنة الفكر الأسود وتربية النّشء، بدءاً من الكتاتيب ورياض الأطفال والمحاضن على التقليد والتواكُل والانغلاق على الذّات وتكريس الفكر الميتافيزيقي الملغّز. وسترى ببصركَ وتَسمع بأذنَيْكَ شيوخَ العِلم يفتون بما يُميت كلّ طموح، ويُسجن الجسد، ويربّى الكيان البشري على القهر والكبت.
هذا المشهد العربي الذي نتخبَّط فيه يوميّاً يجعلنا نتساءل: أين الفلسفة والفكر المُستنير في كلّ ما يحدث الآن؟ أين دَور العقلالذي يُقال إنّه أعدل الأشياء قسمة بين الناس؟ وقبل ديكارت سيّد الحداثة الغربيّة، قال أبو العلاء المعرّي (ت 445هـ) في اللّزوميّات:
كذب الظنّ لا إمام سوى ال عقل مشيراً في صبحه والمساء
وأين الجاحظ (ت 255هـ) الذي “سلْطَنَ” العقلَ وجَعَلَ الشكَّ منهاجاً في البحث من أجل الوصول إلى اليقين، وجعَلَ الكذبَ للحواسّ والحُكمَ القاطعَ للعقل، فيقول في الجزء الأوّل من كتاب الحيوان: “فلا تذهب إلى ما تريكَ العَين، واذهب إلى ما يُريكَ العقل، وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواسّ، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجّة”.
وأين الفيلسوف أبو سليمان المنطقي الذي قال إنّ الفلسفة حقّ والشريعة حقّ، و”مَن أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الدّيانات، ومَن اختار أن يتديّن فيجب عليه أن يُعرِّد بعنايته عن الفلسفة، ويتحلّى بهما مفترقَيْن في مكانَيْن على حالَيْن مختلفَيْن، ويكون بالدّين متقرّباً إلى الله تعالى، على ما أوضحه صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفّحاً لقدرة الله تعالى في هذا العالَم الجامع للزّينة الباهرة لكلّ عَيْن، المحيِّرة لكلّ عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخر” (التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، اللّيلة 17).
وأين أبو الوليد بن رشد (ت 1198م) الذي أكّد أنّ الشريعة والفلسفة أختان بالرّضاعة، وقال إنّ “الشّرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به [..و.] ذلك بيِّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى” (ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال). وقد طَرح ابن رشد سؤالاً على غاية كبيرة من الأهمّية في مفتتح كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال حول شرعيّة الفلسفة في علاقتها بالشريعة عندما قال: “هل النَّظر في الفلسفة وعِلم المنطق مُباح بالشرع؟.. أم محظور؟ أم مأمور به؟” وكان جوابه: “إن كان فعلُ الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النَّظر في الموجودات واعتبارها، من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإنّ الموجودات إنّما تدلّ على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنّه كلّما كانت المعرفة [بصنعتها] أتمّ، كانت المعرفة بالصّانع أتمّ” (فصل المقال…).
وقد ذهب ابن رشد أبعد مدىً عندما قال: “نقول: إن مَثَلَ من منع النّظر في كُتب الحكمة مَنْ هو أهل لها، من أجل أنّ قوماً من أراذل الناس قد يُظَنُّ بهم أنّهم ضلّوا من قِبَلِ نظرهم فيها، مَثَلُ مَن مَنَعَ العطشان شُرْبَ الماء العذب حتّى مات؛ لأنّ قوماً شَرَقوا به فماتوا، فإنّ الموت عن الماء بالشَّرَق أمرٌ عارِض، وعن العطش أمرٌ ذاتيٌّ ضروريّ” (فصل المقال…).
وأين دَور الفلسفة المتمثّل في تغيير العالَم نحو الأفضل؟ لقد ثارتِ الفلسفةُ الحديثة في القرن التّاسع عشر على الفلسفة الكلاسيكيّة الموغلة في الميتافيزيقا وعالَم الإلهيّات عندما قال كارل ماركس إنّ الفلسفة القديمة لم تتخطّ تفسير العالَم، بينما المنشود من الفلسفة تغييره؛ وعندما قالت الفلسفة الوجوديّة إنّ وجود الإنسان سابق ماهيّته، وإنّ الكائن البشريّ مشروع غير مُكتمِل، وهو يتأسّس تدريجيّاً على امتداد حياة الإنسان، وإنّ العالَم الصغير هو المسؤول الوحيد عمّا يكونه وعمّا يفعله، لأنّ الحياة إرادة ومسؤوليّة وفعلٌ دؤوب متى توقّف حلَّ الجمود والموت.
في اللّيلة الأربعين من الإمتاع والمؤانسة
إنّ طرح هذا الإشكال مُغْرٍ وعلى غايةٍ كبيرة من الأهميّة، وهو يَطرح عديد الإشكاليّات المتعلّقة بالزّمن الرّاهن؛ ثمّ إنّ إشارتنا إلى أعلام الفكر المستنير الذي جَعَلَ العقلَ سلطاناً يتمتّع بالحُكم القاطع توحي بوجود زمنٍ غابرٍ ساد فيه الفكرُ الفلسفي، وانتشرت فيه ثقافة السؤال والحوار والمُناظرات العقليّة، واحتُرم فيه الفكر المُخالِف وأهل الملّة المُغايِرة، واجتمع في الحلقةِ نفسِها المُسلمُ واليهوديُّ والمسيحيُّ والمجوسي، وتحاوروا في مسائل فكريّة متنوّعة في هدوءٍ واحترامٍ مُتبادل (أنظر “الإمتاع والمؤانسة” و”الهوامل والشوامل” للتوحيدي).
والمتأمّل في ما أُلِّف في القرون الثاني والثالث والرّابع الهجريّة، يُمكنه أن يتبيّن كم كانت تلك الإشكالات عميقة وبعيدة المرمى ومتّسعة الأُفق، ويُمكن أن نَذكر من بين المسائل التي بُسطت للتحاوُر حولها إشكالات الإنسان والنَّفس والطبيعة والعقل… فحول هذه الإشكالات الفلسفيّة التي طُرحت في الحلقات والمجالس العلميّة يُمكن أن نقرأ في اللّيلة الأربعين من الإمتاع والمؤانسة القضايا المطروحة التالية: “ما النَّفس؟ وما كمالها؟ وما الذي استفادت في هذا المكان؟ وبأيّ شيء باينت الرّوح؟ وما الرّوح؟ وما صفته؟ وما منفعته؟ وما المانع من أن تكون النَّفس جسماً أو عرضاً أو همّاً؟ وهل تبقى؟ وإن كانت تبقى، فهل تعلم ما كان الإنسان فيه ها هنا؟ وما الإنسان؟ وما حدّه؟ وهل الحدّ هو الحقيقة، أم بينهما بون؟ وما الطبيعة؟ وهلّا أغنى الروح عن النَّفس؟ أو هلّا أَغنت النَّفس عن الروح؟ وهلّا كفَّت الطبيعة؟ وما العقل؟ وما أنحاؤه؟ وما صنيعه؟ وهل يَعقل العقل؟ وهل تتنفّس النَّفس؟ وما مرتبته (أعني العقل) عند الإله؟ وهل ينفعل؟ وهل يفعل؟ وإن كان ينفعِل ويَفعل فقسط العقل فيه أكثر من قسط الانفعال؟ وما المعاد المُشار إليه؟ أهو للإنسان؟ أم لنفسه؟ أم لهما؟ وما الفَرق بين النَّفس، أعني نفس عمر وزيد وخالد؟ ثمّ ما الفَرق بين أنفس أصناف الحيوان؟ وهل الملك حيوان؟ فقد علمت أنّه يقال له: حيّ، وهل فيه حياة؟ وعلى أيّ وجه يُقال: الطبيعة حيّة، والنَّفس حيّة والعقل حيّ؟”.
إنّ القارئ لهذه المسائل/ الأسئلة سيُلاحِظ كم هي عميقة ودقيقة وعالقة في الإنسان، هذا الكائن الإشكالي؛ إنّها في الحقيقة مجموعة من اللّطائف يتبطّنها الكثير من المتعة والعُمق، قدّمها الوزير البويهي ابن سعدان إلى أبي حيّان التوحيدي ليطرحها على أهل الاختصاص، ثمّ يمدّه بالجواب؛ وشفع الوزير طرحه لهذه الإشكالات بالملاحظة التالية: “إنّ هذا وما أشبهه شاغلٌ لقلبي، وجاثمٌ في صدري، ومعترضٌ بين نَفسي وفكري” (الإمتاع والمؤانسة).
ثمّ ظَهَرَ أبو حامد الغزالي (ت 505ه) في القرن الخامس الهجري، فتهجَّم على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة، واتّهمهم بالكفر في عديد المسائل، فأصاب الفكرَ الفلسفيَّ المتحرِّر بالضربة القاضية بحسب عبارة محمّد عابد الجابري (ت 2010م) في كتابه تكوين العقل العربيّ.
وقد كان من نتائج ذلك اغتيال الفكر الفلسفي الحرّ، إذ صادر مؤلّفات ابن رشد (ت 1198م) التي هاجرت إلى الغرب لتدرَّس هناك، ويُستفاد من أفكار مؤلّفها، واستفاد الغرب كذلك من الترجمات العربيّة للفلسفة اليونانيّة وشروحها بعدما أسّسوا المعاهد والمدارس، وعلّموا أبناءهم اللّغات الشرقيّة: العربيّة والفارسيّة والتركيّة والسريانيّة والعبريّة… واستعملوها مداخل إلى فَهْمِ التراث القديم، يونانيّه وعربيّه. وعلى أنقاض التراثَيْن نشأتِ الفلسفةُ الغربيّة الحديثة، ووُلدت الحداثةُ التي نَهضت على الحرّيّة والعقلانيّة والعِلم والعلمانيّة واحترام الآخر المُختلف في الرأي والملّة واللّون والجنس.
إنّ الإنسان في العالَم العربي والإسلامي في حاجةٍ أكيدة اليوم إلى الفلسفة والعقل والفكر المستنير المتحرّك حاجته إلى الماء والهواء والطعام والكرامة والحرّية، ولاسيّما إذا انتبهنا إلى ما يحدث في عالمنا اليوم من تخلّف ثقافيّ وعلميّ ومعرفيّ، ومن انتشارٍ للفكر الغيبي الدّغمائي، ومن صعود المشعوذين والقائلين بامتلاك الحقيقة المُطلَقة، ومن تفشٍّ للإرهاب الفكري والمادّي. وقد ساعد على ذلك وفرة وسائل التّواصل الاجتماعي ويُسر الوصول إليها واستعمالها من دون تحمّل أعباء.
لقد صار من الضّروريّ أن ندعو جميعاً اليوم إلى ردّ الاعتبار للفكر الفلسفي المُستنير على جميع المستويات، كمّاً وكيفاً، محتوىً ومنهجاً وآليّات تدريس في المعاهد الثانويّة والمعاهد العليا والكلّيات، وأن يسعى الجميع إلى تربية النشء على احترام إنسانيّة الإنسان، وعلى حرّية الفكر والمُعتقد، وعلى الإيمان بالحقّ في الاختلاف والحقّ في الحياة وفي عيشٍ كريم يوفّره الكدّ والعمل، في عالَمٍ يسوده الوئام والمحبّة والسلام والأخوّة في الإنسانيّة.
تعني الفلسفة في مفهومها اللّغوي الأصلي حُبّ الحكمة، والحكمة تتأسّس على التّساؤل الدّائم حول الوجود وإشكالاته وحول الإنسان الذي أشكل على الإنسان بحسب عبارة أبي حيّان التوحيدي، وحول إشكالاته من حيث الماهيّة والوظيفة والرّسالة التي يتحمّلها في العالَم والإكراهات التي يصطدم بها، فتحول دون تحقيق وجوده باعتباره فاعلاً فيه لا مفعولاً به. إنّ السؤال هو المُنتِج للمعرفة، والعقل الصائب هو ذاك الذي يكون دائم السؤال: لماذا ما زال قابيل يقتل أخاه هابيل؟ لماذا ما زال العربيّ المُسلم يلجأ إلى المُشعوذين والسحرة ويتوسّل عطفهم كلّما أشكل عليه أمرٌ مّا؟ لماذا نار حرب “داحس والغبراء” لم يخمد أوارها بعد؟ وحرب البسوس تأكل الأخضر واليابس؟ لماذا يُحارِب العربيّ المسلم جاره بالوكالة؟
لقد خُلق الإنسان حرّاً طليقاً، لكن ما أن يُغادِر الرَّحم حتّى يُصلى بنار القيود قماطاً وفقراً وجهلاً واستبداداً، على الرّغم من أنّه وُلد حرّاً وليكون حرّاً ومسؤولا عمّا يكونه.
*أستاذ جامعي وباحث من تونس
قم بكتابة اول تعليق