الفكر الإفريقيّ والحاجة إلى التحرُّر الإبستمولوجيّ 

أفقد. محمّد نور الدّين أفاية*

قامَ التاريخُ الأوروبيُّ على فكرةِ مركزيّة العالَم الغربيّ واعتباره أصل الفلسفة ومَهد الحضارة، وكان ينظر إلى باقي الشعوب على أنّها شعوبٌ “غير متحضّرة”، يعوزها التفكير السليم والقدرة على الخلْقِ والإنجاز. غير أنّه ابتداء من ستّينيّات القرن الماضي، حرص العديدُ من المفكّرين والمثقّفين من داخل التاريخ النظريّ الأوروبيّ نفسه، والذين تحلّوا بنظرةٍ نقديّة، فاحصِة، وموضوعيّة، على كشْفِ خلفيّات هذا الموقف المُتعالي إزاء باقي الشعوب وفضحوا حقيقة التأويلات “الإيديولوجيّة” التي جرى إنتاجها على امتداد تاريخ الغرب في علاقاته مع إفريقيا.

وقد دعا هؤلاء المفكّرون إلى تبنّي موقفٍ هادئٍ ونظرةٍ عادِلة إزاء الثقافات والمُجتمعات الإنسانيّة الأخرى. كما اعتبروا، ارتكازاً على آليّات نظريّة ومُمارسات ميدانيّة جديدة، أنّ الحضارات السابقة على الحضارة الأوروبيّة، تمتلك تُراثاً زاخراً من المَعارف ومن أصول الحِكمة يتعيَّن الانتباه إلى قيمتها وقوّة أفكارها.

لقد أعطى الخطابُ الاستعماري لنفسه الحقّ والوسائل والسلطة في تسمية الإفريقي وتمثُّله، وبناء تصوّراتٍ حوله، وتصنيف عالَمه وثقافته وفقاً لإطار معياري يختزل الإفريقي في نِطاق التخلُّف، وعدم أهليّته على إعمال العقل، والرزوح تحت وطأة الفاقة والعوز. وباسم حتميّة تاريخيّة وكَونيّة خَلَقَهما الغرب وطوَّرَهما وروَّج لهما، وَضَعَ الخطابُ الاستعماري نفسَه كمَركزٍ للإنسانيّة والتقدُّم والعقلانيّة؛ غير أنّه لا يُمكن اختزال مفهوم “فترة ما بعد الاستعمار” في نِطاقها الزمني الكرونولوجي، لأنّها تحيل، أيضاً، على الأعمال النقديّة المهمّة التي أَنجزها باحثون أوروبيّون، بالإضافة إلى مُفكّرين من آسيا وإفريقيا وأميركا اللّاتينيّة والهند. ومن أجل الاضطلاع بهذا العمل الرامي إلى إعادة بناء الذّات، كان لِزاماً على المفكّرين الأفارقة القيام بنقْدٍ مُزدوج: أوّلاً كشف العنف الجسدي والاقتصادي والسياسي الذي قام به الاستعمار؛ وثانياً التحرُّر من العنف الإبستمولوجي الذي تَركه النِّتاج العِلمي “الكولونيالي”.

عملَ روّادُ “الفكر الإفريقي”، مثل بولين هونتوندجي (Paulin Hountondji)، والحسن نداو (Alassane Ndaw)، وليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor)، وفابيان إبوسي بولاغا (Fabien Eboussi Boulaga) وآخرون غيرهم، على التساؤل عن شروط إمكانيّة التفكير في إفريقيا خارج نِطاق المَفاهيم القائمة على ادّعاء مركزيّة الحضارة الأوروبيّة وصدارتها، وبناء ما أسماه الحسن نداو “أقْلَمَة التفكير مع السياق الإفريقي”. من جانبه، كان نغيجي وا ثيونغو (Ngugi wa Thiong’o)، الذي دعا إلى “تحرير العقل من الاستعمار”، قد اهتمّ بالطابع المعقّد للعلاقات بين المُستعمَر والمُستعمِر، كما نَظَّرَ لها، بعُمقٍ لافت، التونسي ألبرت ميمي (Albert Memmi) في خمسينيّات القرن الماضي؛ حيث لاحظا ترسُّخ الوجود الكونوليالي في نمط تفكير الأفارقة وطريقة رؤيتهم للأشياء. وحتّى يتحرّر الإنسان الإفريقي من هذه الهَيْمَنة، لم يكُن كافياً المُطالَبة بتحرير العقول من الاستعمار، بل كان لزاماً العمل أوّلاً، كما يشير نغيجي وا ثيونغو، على إعادة النَّظر في المسألة اللّغويّة في إفريقيا. وهي قضيّة تكتسي، حسبه، أهميّة قصوى بالنسبة إلى كلّ عمل يروم تحرير الإنسان الإفريقي، باعتبارها قضيّة اندرجت دائماً في قلب العنف الكبير الذي تعرّضت له إفريقيا في القرن العشرين.

لذلك انصبّت الانشغالات الرئيسة للنخب والمثقّفين الأفارقة على مُحاولات تجاوُز فكرة مركزيّة الحضارة الأوروبيّة من خلال طرْح الأسئلة الكبرى بشأن “العوالِم الإفريقيّة”، و”الهويّة” الإفريقيّة على المستويات الفلسفيّة والأنثروبولوجيّة والتاريخيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، والانخراط في مشروعاتٍ فكريّة تَستهدف تجاوُز الأطروحات والمفاهيم التي وضعها الأوروبيّون حول إفريقيا منذ القرن 19، وإعادة بناء فكرٍ جديد، وكتابة تاريخٍ مُغاير من خلال إحياء القيَم المؤسِّسة للهويّة الإفريقيّة، وتأسيس وعي مميَّز برهاناتها قصْد المُشارَكة قي تحديث البلدان الإفريقيّة وتنْميتها.

وبغرضِ إعادة بناء هويّة (أو هويّات) جديدة متجذّرة في الزمن الإفريقي والعالَمي، انكبّ المثقّفون على دراسة “العوالم الإفريقيّة” بمُساءلة التفسيرات والتأويلات التي أنتجتها العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة خلال القرن الماضي، وباستكشاف العوامل المُتداخلة التي تؤثّر في تناوُل موضوعاتٍ من قبيل الدولة، والاقتصاد، والمُجتمع، والثقافة، كموضوعاتٍ للبحث في مُختلف مجالات الفكر. وقد تمثَّل الهدف من هذه المشروعات الفكريّة في الخروج من مركزيّة الحضارة الأوروبيّة، وكشْف الأشكال المُختلفة للعنف، الجسديّة والرمزيّة، التي مورست على تاريخ الأفارقة وجغرافيّتهم وثقافتهم وجسدهم، علماً أنّ هذا العنف لم يقتصر على الجانب المادّي أو النفسي فقط، بل له أبعاد إبستيمولوجيّة.

ولفهْمِ أعمال العنف الاستعماريّة وإدانتها، على المستوى المادّي والرمزي، كما على المستوى المَعرفي، عملَ الباحثون والمفكّرون الأفارقة، على مدى العقدَيْن الماضيَيْن، على تسليط الضوء على المراحل الرئيسة للفكر الإفريقي الفلسفي، أو القانوني، أو اللّاهوتي، أو الأخلاقي، والاقتصادي، واستيعاب المبادئ التي أَسَّست الثقافةَ الغربيّة وانخرطوا في بناء نظرة نقديّة مزدوجة للتراث الإفريقي كما للحداثة.

واليوم، تتمثّل الضرورات الرئيسة للجيل الجديد من المفكّرين الأفارقة في انتقاد الآثار العنيفة للحداثة على الذّات الإفريقيّة، لتحرير أنفسهم من صدماتها، واقتراح آفاقٍ فكريّة ذاتيّة؛ مع عِلمهم أنّ أوضاع “العوالم الإفريقيّة” متنوّعة ومُتباينة، بل مُتناقضة. وبقدر ما تُحاول بعض البلدان الخروج من الاستبداد، ومن “الحكامة السيّئة”، و”التنمية السيّئة”، فإنّ “أنظمة” أخرى عديدة تُعبّر عن عنادٍ واضح وتتشبّث بالسلطات التي تدفع السكّان والشباب، على وجه الخصوص، إلى التمرُّد والعنف. واعتباراً لذلك يَجِدُ المُراقِبُ الموضوعي للتطوّرات التي تشهدها إفريقيا اليوم، نفسَه حيال كثيرٍ من الصور الجاهزة التي تُلامس تضخُّم الأساطير قياساً إلى الحقائق، ويضفي انتشار استعمال بعض التوصيفات (من قبيل إفريقيا الصاعدة، والمعجزة الإفريقيّة، وقارّة المُستقبل، والإلدورادو الإفريقي) المزيد من الالتباس والغموض في فهْمِ حقيقة وضعيّة التنمية أو “التنمية السيّئة” للاقتصادات والمُجتمعات والثقافات الإفريقيّة. 

من هذه الزاوية يرى أشيل مبيمبي Achille Mbembe في كِتابه “سياسات اللّا صداقة”، مثل غيره من المثقّفين، أنّ إفريقيا يجب أن تُصبح “مركز ذاتها”، وأن تنأى بنفسها عن خيارات ما بعد الكولونياليّة. وهذا الأُفق مُمكن من خلال ما يسمّيه بناء “سياسة علاقات جديدة”، واستراتيجيّات تنمية داخليّة؛ إذ لم يعُد من المقبول البحث في أوروبا عن حلولٍ للمسائل الإبستمولوجيّة أو المُشكلات السياسيّة التي تطرحها الوقائع الإفريقيّة على الأفارقة.

*باحث ومفكّر من المغرب

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


63 + = 69