الثقة في حكومة أخنوش إنتهت شعبيا ، فهل تنتهي سياسيا ؟

بقلم : البراق شادي عبد السلام

كشفت الأزمة السياسية الأخيرة بين مختلف مكونات الأغلبية الحكومية، والتي كان لإحتجاجات “جيل Z” دور محوري في إبرازها ، عن تباين شديد وعميق في الرؤى والمنهجيات المعتمدة بين مختلف هذه المكونات في طريقة تدبيرها. فكل طرف في الائتلاف الحكومي يتعامل مع المطالب الشعبية من زاوية مصلحية مختلفة، مما أدى إلى تشتت في القرارات في ظل غياب إطار سياسي موحد لمعالجة الاحتقان الاجتماعي رغم أن بلاغ إجتماع رئاسة الأغلبية حاول أن يجيب على بعض الأسئلة المطروحة فوق طاولة النقاش و بالتالي، فإن هذا التعدد الغريب في المقاربات يُترجم إلى شلل جزئي في الفعل الحكومي ويُضعف مصداقية “حكومة الكفاءات” أمام الرأي العام. إذ لا يمكن إنكار أن هذه الاحتجاجات ما هي إلا تعبير شعبي مباشر عن الإحباط و اليأس تجاه الفشل الذريع في تنزيل المحور الإجتماعي من البرنامج الحكومي بالشكل الذي يلبي تطلعات المواطنين وفق إطار زمني يتفاعل مع مستجدات الساحة الوطنية ، مثلا أزمة الغلاء ظلت الحكومة تعالجها من زاوية التسويق لمفهوم الدولة الإجتماعية من خلال دعم مشاريع الحماية الإجتماعية الدعم المباشر للأسر في حين كان الزيادات الصاروخية في أثمنة المواد الأساسية تتم عبر شكل ممنهج في غياب تام لآليات المراقبة أو تفعيل لميكانيزمات تسقيف الأسعار التي ينص عليها القانون حفاظا على كرامة المواطن المغربي .

فجوهر الإخفاق الحكومي لا يكمن فقط في بطء التنزيل للبرامج الحكومية ، وإنما يتمركز حول اختيار نمط حوكمة ينحرف بشكل واضح عن استحضار المصالح العليا للشعب المغربي ، حيث ان الأولويات في العديد من المناسبات قد تحولت نحو خدمة المصالح الضيقة لرجال الأعمال والنخب الإقتصادية الفاسدة المرتبطة بـالحزب الحاكم و باقي مكونات الأغلبية، على حساب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كما حدث في ملف دعم الأبقار و الأغنام من جيوب دافعي الضرائب أو مايسمى بفضيحة الفراقشية . وهكذا، أصبحت السياسات العمومية تُفسر على أنها تخدم الأجندات الفئوية البئيسة على حساب المصلحة الوطنية الشاملة. لذلك، شكلت هذه الاحتجاجات رسالة شعبية قوية مفادها أن الإستمرار في هذا المسار،الذي يفضل مصالح الدائرة الضيقة للفاعل الحكومي على إلتزامات الحكومة مع المواطنين ، بشكل يُعمق الفجوة بين الحكومة والمواطن و يضرب أسس الثقة الشعبية التي أفرزتها صناديق الإقتراع يوم 8 شتنبر .

و على هذا الأساس لايمكن إختزال الاحتجاجات الأخيرة في مجرد غضب “جيل Z”؛ بل يمثل هذا الجيل أداة تعبير متقدمة عن إحباط أجيال واسعة من المواطنين تجاه تدهور الخدمات ، لذلك فقد كان لهم دور محوري يكمن في كسر حواجز الخوف و اعتماد آليات رقمية جديدة في الاحتجاج، متجاوزين فشل قنوات الوساطة التقليدية التي لم تعد تمثل سوى جزء ضئيل من المطالب الشعبية ،بل إن جوهر الأزمة يكشف عن تحول عميق في طبيعة الحراك الاجتماعي بالمغرب، يتمثل في صعود جيل جديد لا يعترف ولا يثق في آليات الوساطة التقليدية كالبرلمان والأحزاب والنقابات ، حيث اختار هذا الجيل، المولود في عصر التكنولوجيا، التعبير عن غضبه وإحباطه بشكل عفوي ومباشر عبر الفضاء الرقمي (منصات مثل ديسكورد ووسائل التواصل الاجتماعي)، لينقل بعدها مطالبه إلى الشارع، متجاوزاً بذلك الإطار المؤسسي القديم الذي غالباً ما يُتهم بـخدمة الأجندات النخبوية و التواطئات السياسية و الإنتخابوية على حساب العدالة الاجتماعية و كرامة المواطن المغربي .

لذلك فالمطالب الأساسية لهذا الحراك لم تكن سياسية بالمعنى الحزبي الضيق، بل كانت مطالب اجتماعية وخدماتية جذرية تركز على حقوق المواطنة الأساسية. حيث رفع “جيل Z” شعارات تطالب بتحسين قطاعي الصحة والتعليم بشكل عاجل وفعال، معتبراً تدهور هذه الخدمات دليلاً على وجود خلل في أولويات الحكومة ، فهذا الجيل يرى أن الآداء الحكومي يسير بـسرعتين مختلفتين : سرعة متقدمة في البنى التحتية والمشاريع الكبرى، وسرعة بطيئة ومتهالكة في القطاعات الحيوية التي تمس حياتهم اليومية ومستقبلهم كالتعليم و الصحة و العدالة الإجتماعية . هذه المفارقة عمقت الشعور بـفقدان الكرامة الاجتماعية ووضعت “حكومة الكفاءات” أمام تحدي إثبات قدرتها على الإنصاف المجالي والاجتماعي وليس فقط الإنجاز الاقتصادي.

شكلت هذه الاحتجاجات أيضا رسالة واضحة بأن أزمة الحكومة الحالية هي بالأساس أزمة ثقة عميقة بين الحكومة والمواطن الشاب فالرفض الشبابي للحوار مع مؤسسات تقليدية، و الإنتقال بشكل مباشر إلى خيار المطالبة بإسقاط الحكومة، يعكسان حالة من الإحباط التراكمي تجاه الفشل في ترجمة تطلعات جلالة الملك محمد السادس إلى مغرب بواقع ملموس يحقق تكافؤ الفرص و لا يسير بسرعتين وبالتالي، فإن الاستجابة الفعالة لهذه الأزمة لا تكمن فقط في تغيير الأولويات الاقتصادية لصالح الاجتماعية، بل تتطلب أيضاً إعادة بناء شاملة لجسور الوساطة المجتمعية وتطوير آليات حوار جديدة تستوعب لغة وتطلعات جيل رقمي لا يقبل الحلول الوسط عندما يتعلق الأمر بحقوقه الأساسية في الصحة والتعليم والعيش الكريم و العدالة الإجتماعية .

في نفس السياق شكلت الأزمة الأخيرة تأكيدًا لا لبس فيه على أن جوهر الخلل هو سياسي بامتياز، وليس أمنيًا، رغم المحاولات الدؤوبة لأصوات داخلية مشبوهة وكذلك أطراف خارجية معادية، سعت إلى بناء سردية مغايرة للواقع بإختلاق وقائع كاذبة أو تحوير الحقائق
عبر المحاولة اليائسة لاستخدام أدوات الجيل الرابع للحروب، بهدف بث سمومها وصرف النظر عن فشل حكومة “الكفاءات” وتشويه طبيعة الاحتجاجات ، لترسيخ فكرة المواحهة مع القوى الأمنية و قوات إنفاذ القانون التي تشكل الجدار الحقيقي لمواجهة المخططات التخريبية التي تهدد الإستقرار المجتمعي و الأمن بمختلف مفاهيمه ، هو تلاعب خطير بالحقائق ومحاولة لتأزيم الوضع. حيث أظهر الوعي الشعبي عمقًا كبيرًا في إدراكه لخطورة هذا التوجه، مُفشِلاً أي محاولة لجرّ البلاد نحو سيناريوهات اصطدام بين المؤسسات السيادية و الإستراتيجية و حاضنتها المركزية المتمثلة في الجماهير الشعبية . هذا الإفشال لم يكن نتاجًا لجهد حكومي أو تفاعل القوى السياسية مع الأحداث كما يظن البعض ، بل نتيجة للتلاحم الشعبي القوي والثقة الشعبية الجارفة في المؤسسة الملكية، المعبر الأسمى و الأوحد و الوحيد لتطلعات ومطالب الشعب المغربي. هذه المكانة المرجعية هي ما جعلها الضامن الوحيد والمحوري لاستقرار وأمن الوطن، هذا الإدراك الشعبي هو الذي حال دون تحول الأزمة السياسية إلى فوضى خلاقة، مؤكدًا أن الحل يكمن في الإصلاح السياسي و الاستجابة للمطالب الاجتماعية العادلة، وليس في تكريس أسباب الأزمة و إجترار خطاب حكومي لإنجازات وهمية لا توجد إلا في مخيلة أصوات نشاز و بروفيلات سياسية ضعيفة جدا تستند عليها الأغلبية الحكومية لتبرير فشلها في تحقيق الإستقرار المجتمعي .

في نفس السياق أكدت الأزمة الأخيرة عن عجز تواصلي حكومي مزمن وفشل ذريع في استعادة ثقة الشارع ، بل وزادت من تفاقمها. فبدلاً من تبني خطاب جامع وهادئ يعترف بالمطالب الشعبية ويقدم حلولاً واضحة، سُجِّل خروج أصوات “نشاز” من داخل الأغلبية الحكومية. هذه الأصوات، التي اعتادت ممارسة أدوار بهلوانية ولغة عنيفة ومستفزة و بليدة في مختلف المنصات سواء عبر اللجان البرلمانية، أو خلال الجلسات العامة في مجلس النواب، أو في الاجتماعات الحزبية، أو حتى في المنشورات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تساهم سوى في تأجيج الاحتقان و حالة الغضب ، و بالتالي فمحاولات تبرير الإخفاق الحكومي، أو تحميل المسؤولية لأطراف أخرى و إتهامها بتأجيج الشارع ، أو التعامل مع غضب جيل Z، والتي بلغت ذروتها في الإنكار الصارخ للمطالب الشعبية بإقالة الحكومة من طرف الناطق الرسمي للحكومة، كلها ممارسات قوضت مصداقية الحكومة بشكل كبير . وبدلاً من أن تكون قنوات التواصل الحكومي جسراً لإعادة بناء الثقة، تحولت إلى بؤر لتوليد المزيد من الشكوك، مؤكدة بذلك الانفصال الصارخ بين الرؤية الحكومية والواقع المعيشي وتطلعات المواطنين، خاصة الشباب منهم، الذين يرون في هذا السلوك دليلاً إضافياً على تغليب المصالح الفئوية الضيقة على المصالح الوطنية العليا.

فجوهر الأزمة الراهنة يؤكد أن الاستجابة للمطالب الشعبية لا يمكن اختزالها في بيانات التهدئة الحكومية أو الإطلالات المنمقة للوزراء في برامج إعلامية خاصة ، فمثل هذه المحاولات التجميلية، التي تهدف إلى إمتصاص الغضب وتغطية الفشل الهيكلي، لم تعد تجدي نفعاً أمام وعي شعبي متزايد، وخصوصاً لدى “جيل Z” الذي يتجاوز الخطاب التقليدي إلى المطالبة بالفعل الحكومي الملموس والشفاف. حيث تحولت هذه الإطلالات بدلاً من أن تكون قنوات لإعادة بناء الثقة، إلى بؤر لتوليد المزيد من الشكوك، مؤكدة مرة أخرى على الانفصال الصارخ بين الرؤية الحكومية والواقع المعيشي ، وفي هذا السياق، لم يعد مقبولاً تأجيل خيار تقديم الحكومة لاستقالتها أو على الأقل إقالة الوزراء الذين ثبت عجزهم أو فشلهم في تقديم إجابات سياسية وتدبيرية شافية للقطاعات الحيوية التي تشكل محور مطالب “جيل Z”، وعلى رأسها وزارتا التعليم والصحة ، فالإصلاح هنا لا يقتصر على تغيير رأس الوزارة ، بل يجب أن يمتد ليشمل إجراء تغييرات عميقة وجذرية في حكامتها المركزية والجهوية والإقليمية، لضمان الكفاءة والإنصاف المجالي و الأهم هو ربط المسؤولية بالمحاسبة لكشف الإختلالات و محاربة الفساد و ترتيب المسؤوليات و الجزاءات .
اليوم هذه الخطوات الجريئة هي وحدها القادرة على بناء جسور الثقة المفقودة، وتأكيد التزام الحكومة بترجمة التوجيهات الملكية نحو مغرب يحقق العدالة الاجتماعية و المجالية وتكافؤ الفرص، بدلاً من التمسك بوضع أثبت فشله السياسي والإداري الذريع. فما يحتاجه الشارع الآن هو تغيير جذري في المقاربة، يبدأ بإقرار صريح بالمسؤولية ويُتوج بقرارات سياسية حاسمة .